المحطة السادسة: العودة إلى أرض الوطن

الخميس 05 يوليو 2018 11:39 م بتوقيت القدس المحتلة

المحطة السادسة: العودة إلى أرض الوطن

العودة إلى الوطن

واصل عرفات "معركة"التفاوض مع إسرائيل بنفس الروح التي حركته دائما: يريد سلام شجعان ومستقبلا  أفضل لشعبه وللإسرائيليين،ولكن دون تنازل عن الحقوق. أما على الجانب الآخر حاول الإسرائيليون الالتفاف على الاتفاق وتفريغه من محتواه والتملص من تنفيذ استحقاقاته..شعر ياسرعرفات بأن الإسرائيليين خدعوه..لكنه واقعي يتعامل مع التطورات ويسعى لتطويعها لمصلحة قضيته،فتحرك عرفات ليحافظ على قوة"الدفع" الناشئة آنذاك وكانت فرنسا أول دولة غربية يزورها بعد اتفاق أوسلو،واستقبل هناك كممثل للكيان الفلسطيني الجديد.قدم الاتحاد الاوروبي 600مليون دولار لمساعدة الكيان "الوليد"..وبدأت المساعدات العربية بالتدفق بعد أن التقى عرفات في كانون الثاني/ديسمبر1994بالعاهل السعودي الملك فهد لأول مرة منذحرب الخليج.

وفي صبيحة 25شباط/فبراير 1994استيقظ عرفات على نبأمجزرة الحرم الايراهيمي في الخليل..قتل الإسرائيلي  باروخ غولدشتاين 29من المصلين الفلسطينيين عند صلاة الفجرداخل المسجد..  وطلب عرفات من مجلس الأمن إرسال قوات دولية إلى الأراضي المحتلة لمنع تكرار المجازر.. رفضت إسرائيل و تدهورالموقف على الارض، ولكن كان لابد من المواصلة في التفاوض لتنفيذاتفاق أوسلو.

وفي الرابع من أيار/مايو1994وقع عرفات مع رابين في القاهرة اتفاقية  حول قطاع غزة ومنطقة أريحا  لتبدأ مرحلة نقل الاراضي المحتلة"غزةـأريحا أولا" ،وكان الأمر بالنسبة لعرفات بداية العد العكسي نحو إقامة الدولة المستقلة.

بعد التوقيع بأسبوع بدأت القوات الإسرائيلية في الانسحاب من قطاع غزة وأريحا.

وفي الأول من تموز/يوليو1994 كانت فلسطين على موعد خاص مع القائد .. كانت تلك هي الـمرة الأولى التي يعود فيها إلى أرض الوطن، ليس كفدائي متخفِ، بل في إطار اتفاقية سلام وقّّع عليها،ومعززة باعتراف دولي و أمام عيون الملايين في العالم الذين تابعوا عبر الشاشات مشاهد عودته.رافقه الرئيس مبارك حتى الحدود التي تقسم بلدة رفح إلى شطرين.ودّع عرفات مبارك، وفي الساعة الثالثة من بعد الظهر، قبّل أرض الوطن على الجانب الآخر من الحدود وأدّى الصلاة شكرا وحمدا لله على العودة إلى  وطنه بعد 27سنة من الغياب القسري.

كانت الجماهير تنتظره على أحر من الجمر ،كانت اللحظات مفعمة بالعواطف والمشاعر.. وكان الصخب هائلا وكان المشهد تاريخيا.. علّقت انتصار الوزير "أم جهاد"، التي وصلت مع عرفات في القافلة ذاتها، قائلة: انتظرت طوال حياتي هذه اللحظة. لقد استشهد زوجي"أبو جهاد" من أجلها.

تدافعت الحشود من كل الجهات على "أبو عمار" .. كانت الطريق مزدانة بالأعلام الفلسطينية وبصورعملاقة للرئيس عرفات. اكتظ ميدان الجندي الـمجهول في غزةبعشرات الالاف من المتعطشين إلى رؤيته ...تسلق الشبان الأشجار والأسطح ليشاهدوا عن بعد ذلك الفدائي العائد..القائد الذي يرمز إلى الحرية والكرامة الـمستعادتين. وما أن ظهر على الـمنصة، حتى اندفع الجمهور كموجة هائلة نحوه، محطما الحواجز،كاسرا سياج رجال الشرطة...

توجه عرفات بعد ذلك إلى مخيم جباليا الذي انطلقت منه الانتفاضة وقال هناك: " لنتحدث بصراحة: قد لا تكون هذه الاتفاقية ملبية لتطلعات البعض منكم، ولكنها كانت أفضل ما أمكننا الحصول عليه من تسوية في ظل الظروف الدولية والعربية الراهنة".

في اليوم التالي، عبَر قطاع غزة بسيارته، متوقفا من حين لآخر لـمصافحة الناس. اشتدت حماسة الجماهير، فأمر أبو عمار رجال الشرطة بأن يدَعوهم يقتربون منه ويلـمسونه...اندفعت الجموع، واكتسحت في طريقها حرس الرئيس.

وفي  الثاني من تموز/يوليو،اندلعت موجة من التظاهرات اليمينية في إسرائيل، وبخاصة في القدس، إثر شائعة مفادها أن عرفات سوف يعرّج في طريقه من غزة إلى أريحا على الـمسجد الأقصى لأداء الصلاة.لكن عرفات انتقل من غزة إلى أريحا في ذلك اليوم على متن طائرةمروحية، وخرج المواطنون لاستقباله بحماسة أعادت إلى الأذهان مشاهد غزة..بل وفاقتها..إنهار حاجز الأسلاك الشائكة الـمزدوج الذي يحمي الـمنصة تحت ضغط الجماهير، وهتف عرفات مطولا مع الـمتظاهرين بـ"الروح بالدم نفديك يا فلسطين "،ثم راح يهدئ الجماهير شيئا فشيئا، حتى بدا كأنه مايسترو يقود  فرقة موسيقية...بكى الكثيرون تأثرا...إنها لحظات وطنية تاريخية تستحضر التضحيات وتعطي أملا بأن التحرر من الاحتلال  قد بدأ فعلا.

وفي الـمقر الجديد للسلطة الفلسطينية الجديدة  في أريحا، أدت الحكومة  الفلسطينية الأولى اليمين الدستورية  . ردد عرفات، ومن ورائه اثنا عشر وزيرا:أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصا لوطني، ولقيمه الـمقدسة ولترابه الوطني، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أعمل لـمصلحة الشعب الفلسطيني، وأن أقوم بواجبي بإخلاص. والله شاهد على ذلك.

وبعد  عشرة أيام  من زيارته الخاطفة إلى غزة وأريحا، بدأ ياسرعرفات يستعد لـمغادرة تونس إلى الوطن ليستقرنهائيا في فلسطين.وقبل ساعات من سفره، توجه إلى قصر قرطاج  لوداع الرئيس التونسي زين العابدبن بن علي وأعضاء حكومته بعد أن كان قد زار مقبرة الشهداء الفلسطينيين في تونس.

بناء السلطة الوطنية

في 12 تموز/يوليو، وصل عرفات إلى غزة وفور وصوله توجه إلى مكتبه، وعقد أول اجتماع مع زملائه في القيادة الفلسطينية.. كانت تنتظرهم مهمات ضخمة ومطلوب انجازها هذه المرة ولأول مرة  من أرض الوطن  وليس من المنافي .

ومن مقره في"المنتدى"بغزة بدأ عرفات معركة بناء السلطة الوطنية وإقامة مؤسساتها.كان مكتبه شبيهاً بذلك الذي تركه في تونس: قاعة اجتماعات، مكاتب، وغرفة ليقضي فيها قيلولته التي لا غنى عنها. الصور ذاتها التي كانت تزين مكتبه في تونس - صورتان لأبي جهاد وأبي إياد، ومنظر للحرم القدسي-، بالإضافة إلى نقش للوصايا العشر في غرفة جانبية، وهي هدية من وزير الشؤون اليهودية في السلطة الفلسطينية، الحاخام موشيه هرش الذي ينتمي الى  طائفة"ناطوري كارتا".  

بدأ عرفات تنظيم قوى الأمن التي تشكلت من قوات "م ت ف"، الـمرابطة حتى ذلك الوقت في بلدان عربية عديدة. وكان الاقتصاد يتمتع بالأولوية في نظر الرئيس عرفات ..و لـم يكن في الشهورالأولى من تأسيس السلطة الفلسطينية في غزة أي هيكل اقتصادي ..لانظام ضرائب، ولا قوانين استثمار، ولا إجراءات تنظيمية لـمنح القروض. لقدورثت السلطة الفلسطينية في الواقع اقتصادا منهارا تماما وبنى تحتية مدمرة ..أزمة سكن حادة،  مجاري مفتوحة على الفضاء، وخدمات صحية شبه مشلولة .

كان عرفات يرى أن"إغلاق"الأراضي الفلسطينية،الذي تفرضه إسرائيل منذ أوائل 1993 سبب رئيسي في تكريس انهيار الاقتصاد.واشتكى عرفات من الصعوبات التي تبرز أمام تطبيق الاتفاقيات، ومن أن الإسرائيليين يتصرفون وكأنهم بتوقيعهم اتفاقيات أوسلو قدّموا مكرمة للفلسطينيين. لكن عرفات أوضح لهم:"الطرفان يقدمان ويأخذان. بالنسبة لنا، نحن أعطينا شيئا غاليا جدا: وهو اعترافنا بإسرائيل، الذي فتح لكم أبواب العالـم العربي، لطالـما حلـمتم بهذا منذ إنشاء دولتكم، كما أعلنتم في العديد من الـمرات".

وفعلا شجعت مفاوضات أوسلو على استمرار الاتصالات الأردنية ـ الإسرائيلية علنا، وتكثفت هذه الاتصالات بعد التوقيع على إعلان الـمبادئ في واشنطن. ومنذ اليوم التالي لهذا التوقيع، عقد البلدان في وزارة الخارجية الأميركية اتفاقية حول جدول أعمال مفاوضات السلام بينهما. بعد توقيع اتفاقية القاهرة بين منظمة التحرير وإسرائيل في أيار/مايو  1994، التقى الملك حسين ورابين في لندن في الشهر ذاته. وفي أواخر تموز/يوليو 1994، أي بعد أسبوعين من استقرار عرفات في غزة، وقع حسين ورابين وكلينتون إعلان واشنطن، الذي يدعو إلى وضع حدّ لحالة العداء بين البلدين وإلى التطبيع الفوري للعلاقات بينهما. وثارت ثائرة عرفات الذي رأى في إعلان واشنطن انتهاكاً لاتفاقيات أوسلو، لان الفقرة الثالثة من الاتفاقية الاردنية ـ الإسرائيلية تجاهلت الفلسطينيين في موضوع أساسي  هو القدس.فقدنصت على ما يلي:  تحترم إسرائيل الدور الخاص للـمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية الـمقدسة في القدس، وعندما تبدأ الـمفاوضات حول التسوية النهائية، سوف تمنح إسرائيل أفضلية مميزة للدور التاريخي للأردن في هذه الأماكن.  بينما نصت اتفاقية اوسلو على  أن مستقبل القدس سوف يبحث بين الفلسطينيين والإسرائيليين في بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية.

تلك هي الـمرة الأولى التي تقطع فيها إسرائيل تعهداً على نفسها حول الوضع النهائي للـمدينة. أما الضمانات الـمعطاة للفلسطينيين حول هذه النقطة فلا تتعلق في الواقع إلا بالوضع الراهن، وليس بالاتفاقية النهائية...وهذا ما اغضب عرفات الذي "انفجر" غضبه مرة أخرى إثر توقيع اتفاقية السلام الأردنية ـ الإسرائيلية في تشرين الثاني/نوفمبر من نفس السنة، والتي وردت فيها الفقرة ذاتها الخاصة بالقدس التي جاءت في إعلان واشنطن.

وبالنسبة لعرفات فالـمسألة تتعلق بالسلام والحرب، وهو يؤكد دائما أن السيادة على الجزء العربي من القدس  حق يعود إلى الفلسطينيين، ولا يحق للـمحتل الإسرائيلي أن يتصرف به على هواه.القدس هي عاصمة الدولة الفلسطينية. إنها ليست للبيع،هكذا قال محتدا في خطابه أمام طلاب جامعة الأزهر في غزة بعد الاتفاق الأردني ـ الإسرائيلي .

إغتيال رابين

في تموز/يوليو1994، تسلـم عرفات ورابين وبيريس، برعاية اليونسكو، جائزة هوفويه ـ بوانيي وذلك في جو ودي للغاية، وتخللته مصافحة بين عرفات ورابين وبيريس وسط تصفيق الحاضرين.  

و في تشرين الثاني/نوفمبر 1994، تسلـم عرفات مع رابين والـملك حسين جائزة السلام، التي منحت لهم من صندوق رونالد ريغان في لوس أنجيلوس. بعدها بأسبوع،  تسلم عرفات ورابين والملك حسين  جائزة أستورياس، التي تحمل اسم ولي عهد العرش الإسباني، الذي قدمها لهم بنفسه.

اختتمت تلك السنة بجائزة نوبل للسلام التي منحت لعرفات ورابين وبيريس .وأصدر حزب الليكود اليميني الإسرائيلي  بيانا عنيف اللهجة جاء فيه: رابين وبيريس  يلحقان الإهانة بالشعب اليهودي بتقبلهما جائزة نوبل شراكة مع قاتل شعبهما.وجاء بيان الليكود في سياق حملة  تحريض يمينية متطرفة وواسعةضد شريك ياسرعرفات في "سلام الشجعان" اسحق رابين.

وفي الجانب الفلسطيني وبينما كانت تجري مباحثات سرية لدمج "منظمات الرفض" في السلطة الفلسطينية، أقدمت إسرائيل على اغتيال أحد مناضلي  حركة الجهاد الإسلامي فثارت انتقادات للسلطة، واستغل رؤساء اجهزة الأمن الإسرائيلية الحادث ليشككوا في شعبية  ومكانة عرفات، وليتساءلوا إن كان بمقدوره مواجهة حرب أهلية ..كان الـمسؤولون الإسرائيليون يحلـمون باندلاع مواجهة شاملة ،غير أن عرفات الذي كان دائما  يعمل على تجنب فخ الحرب الأهلية، أوضح  لرابين أنه على العكس من ذلك يسعى إلى ضم الـمعارضة الأصولية - وبالدرجة الأولى حماس - إلى حكومة وحدة وطنية.

ولكن خلافا لرغبة عرفات اندلعت اشتباكات دموية في غزة بين الشرطة الفلسطينية ومقاتلين من حماس قرب  مسجد فلسطين يوم 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1994، وذهب ضحيتها 16قتيلا وأكثر من100 جريح. واعتبر عرفات أن من ارتكب"الـمجزرة "هم عملاء لإسرائيل من أجل خلق اضطرابات في قطاع غزة وزعزعة الاستقرار. وقد أطلقوا رصاصا متفجرا على رؤوس ثمانية من " فتح" من مسافة قريبة.. وسقط قتيلان آخران من الشرطةوكان معظم الضحايا من مؤيدي السلطة ومسيرة السلام  .

دخلت حماس في صراع ضد السلطة، فُرضت حالة الطوارئ في قطاع غزة.وألقى عرفات خطابا حماسيا شجب فيه أولئك الذين يسعون "لتدمير السلام"، الذين وصفهم بأنهم يتصرفون بتوجيهات من دول خارجية،ولكنه دعا أيضا إلى إطلاق سراح كافة الـمعتقلين الفلسطينيين، بمن فيهم " الشيخ الجليل أحمد ياسين".. مؤسس حماس المعتقل في إسرائيل.

 

وفيما كانت الـمباحثات حول الاتفاقيات تراوح مكانها، تواصلت العمليات الفلسطينية  ضد أهداف إسرائيليةفي ذلك الوقت،و فتح عرفات ورابين قناة ثانية"سرية" لـمحادثات أكثر فعالية، وبدأ العمل بها منذ كانون الأول/ديسمبر 1994. غير أن الـمطالب الإسرائيلية بخصوص الأمن أثارت مرة أخرى خلافات كبيرة. حذرعرفات  ممثله في المفاوضات أحمد قريع"أبوعلاء" من هذه النقطة، مشيرا إلى أن الإصرار الإسرائيلي على موضوع الأمن هدفه تبرير الاستيطان.  

وبينما استمرت الـمحادثات مع إسرائيل، تواصلت الـمواجهات بين الشرطة الفلسطينية وحماس.ولم تتوقف العمليات من "حماس" و"الجهاد" ضد الإسرائيليين. وكانت إحدى العمليات الأكثر عنفا هي تلك التي نفذتها حركة الجهاد الإسلامي يوم 22 كانون الأول/ديسمبر 1995 في بيت ليد وقتل فيها 21 إسرائيليا، معظمهم من الجنود. أدان عرفات العملية فورا، وقدم تعازيه لرابين .. كان الرئيس الفلسطيني  يخشى أن تنسف مثل تلك العمليات جهود السلام .

في أواخر نيسان/أبريل 1995، صادق رابين على أضخم مصادرة للأرض تمت في القدس الشرقية منذ خمسة عشرعاما. كان الهدف منها إنشاء 2500 مسكن للمستوطنين الإسرائيليين.استنكرياسرعرفات هذه الـمصادرات أمام تجمع جماهيري بمناسبة الأول من أيار/مايو في غزة، داعيا الـمجتمع الدولي للتدخل. ساندته حينها حركة السلام الآن الإسرائيلية، وأرسلت له وفدا لدعوته للـمشاركة في تجمع ضخم سيتم تنظيمه في تل أبيب فوافق ..كان يريد ان يغتنم اية فرصة ليدفع بمسرة السلام إلى الأمام . غير أن رئيس السلطة الفلسطينية لـم يحصل على تصريح لدخول إسرائيل، حيث خشي رابين من ردود فعل اليمين الإسرائيلي.

 و بعد عام على قيام السلطة ورغم ماحدث من صدامات داخلية بقيت  مكانة عرفات في الساحة الفلسطينية لاتنازع.أظهر استطلاع للرأي أن 4ر87%،يثقون بعرفات،وحصل الشيخ أحمد ياسين على  9ر01%، وحيدر عبد الشافي على 1ر7%، وفيصل الحسيني على 4ر3%.  فعلاوة على تاريخه النضالي المعروف جيدا للفلسطينيين،كان نمط حياته الـمتواضع واضحا أيضا ومعروفا  للجميع. كان أي مواطن يجد طريقه إلى عرفات ويجد عنده المساعدة التي يريد.   

وفي 24 تموز/يوليو 1995  رزق ياسر عرفات بابنته زهوة، التي وُلدت في الـمستشفى الأميركي في "نويي"في باريس. كان الأب في أريحا حين تلقى الخبر هاتفيا، وقالت له زوجته سهى :إنها صورة عنك. ووصفتها فيما بعد بأنها عنيدة مثل والدها... وبعد يومين وصل عرفات إلى باريس،وبعد لقائه بالرئيس شيراك، توجه إلى الـمستشفى واحتضن ابنته معتز وفخوراابها.

في ربيع وصيف 1995 تكثفت الـمباحثات حول اتفاقية  "أوسلو 2 "  وأخذ ياسر عرفات يفاوض، ويساوم، ويكسب أحيانا. وكان اذا ما اصطدم، كما هو الحال في معظم الوقت، بجدار الرفض الإسرائيلي ..كان  بارع في التصدي ..بل وإثارة زخم محلي واقليمي ودولي للتغلب على ذلك الرفض . ومن ذلك مثلا، أثناء الـمرحلة الأخيرة من الـمفاوضات في طابا، صيف 1995، وحين عرضت عليه خريطة إعادة انتشار الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية، غادر مائدة الـمفاوضات غاضبا. كان من الـمستحيل عليه، كما أوضح للصحافيين، أن يوافق على إجراء لا يتضمن أي تواصل جغرافي بين مدن الضفة الغربية السبع أو بين قراها. كانت هذه الخريطة تمثل كانتونات متجاورة في منطقة سوف تكون السلطة فيها للإسرائيليين حتى بعد إعادة الإنتشار. وبضغط من الرئيس مبارك، وافق على العودة إلى التفاوض، وتمكن من انتزاع بعض التعديلات.

في صيف 1995، فرض عرفات هدنة على حماس وغيرها من التنظيمات الفلسطينية ، غير أن الدعاية الـمناهضة لأوسلو تواصلت على مستوى الشارع، وأصبح الجميع يخشى أن يتعرض رئيس السلطة لـمحاولة قتل. في الجانب الإسرائيلي، شكل أنصار إسرائيل الكبرى لجنة راحت تضاعف من الحملات والـمظاهرات ضد الحكومة، وبخاصة ضد رابين. وُصف رئيس الوزراء بأنه "خادم لعرفات"و "مجرم" .. وأُطلقت دعوات إلى قتله بررتها الفتاوى الحاخامية بحجة أنه  "يعطي أرض الـميعاد إلى غير اليهود ". ورفع  الـمتظاهرون في الشوارع  صورا لرابين يغطي رأسه بكوفية عرفات وعليها كلمة "كاذب ".  

وفي 28 أيلول/سبتمبر 1995، وقع عرفات ورابين في واشنطن "الاتفاق الانتقالي الفلسطيني الإسرائيلي حول الضفة الغربية وقطاع غزة" والذي اشتهر بـ"أوسلو 2 "، بحضور الرئيس كلينتون والـملك حسين. يحدد هذا الاتفاق، بملحقاته العشرة، الإنسحاب الإسرائيلي من الـمناطق الـمكتظة بالسكان الفلسطينيين، وتوسيع نطاق الحكم الذاتي الفلسطيني، وينص على انتخاب مجلس فلسطيني من 88 عضوا، يتمتع بسلطات شريعية ويمارس سلطة تنفيذية محدودة.
 
ويقسم الاتفاق الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق. الـمنطقة  "ا" و "ب " و"ج "  تنسحب القوات الإسرائيلية منها ـ خلال 18 شهرا على ثلاث مراحل ـ و تلتزم" م ت ف"، من جهتها، بإلغاء بنود الـميثاق الوطني التي "تنكر حق إسرائيل في الوجود". ويتعين أن تبدأ مباحثات الحل النهائي للنزاع في موعد أقصاه أيار/مايو 1996، بهدف توقيع اتفاقية قبل تشرين الأول/أكتوبر 1999.

وفي زيارة إلى واشنطن  التقى عرفات مع نحو  200 من المثقفين الفلسطينيين البارزين الذين  يعيشون في الولايات الـمتحدة، عبّر معظمهم عن تحفظه ـ بل انتقاده ـ لعملية أوسلو ،فقال لهم: سأخبركم أمرا .. أنا أيضا لي تحفظات.ولكن لا تنسوا أننا حققنا شيئا مهما، وهو أن شعبنا عاد ليشغل مكانه على خارطة الشرق الأوسط. بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وبعد حرب الخليج التي وضعت، وللأسف.. حدا نهائيا للتضامن العربي، جرت محاولات لشطب الفلسطينيين عن الخارطة. لا تظنوا أن من الصعب شطب شعب عن الخارطة. بل هو أمر ممكن. قد تظل الشعوب في هذه الحالة موجودة، ولكن لا يعود أحد يسمع صوتها. بالنسبة لنا، لقد تجاوزنا هذه الأزمة بفضل اتفاقية أوسلو.

عاد ياسر عرفات إلى الولايات الـمتحدة في تشرين الأول/أكتوبر، حيث دعي للـمشاركة في الذكرى الخمسين لتأسيس منظمة الأمم الـمتحدة، وفي هذه المرة شارك بالصفة الرسمية ذاتها التي يتمتع بها زعماء الدول الـمئة والخمسين الآخرين. وتغيرت علاقته مع اسحق رابين وصارت  تتسم بطابع ودي، و أشاد به رئيس الحكومة الإسرائيلية أمام الجمعية العامة، فخرج عن نص خطابه الرسمي ليعبر عن تقديره الشخصي لـ  "شريكنا في عملية السلام "، كاستجابة منه لبادرة عرفات الذي جاء إلى القاعة ليستمع إلى كلـمته.. وتصافح الرجلان امام مدخل الأمم المتحدة ..وكان ذلك آخر لقاء بينهما.

تصاعدت الحملات اليمينية في إسرائيل ضد رابين .و في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر، رد رابين عبر التلفزيون الإسرائيلي على الانتقادات التي توجه إليه، فقال مشددا:أصبح عرفات شريكنا في عملية المصالحة بيننا وبين الفلسطينيين. لكن لم يلبث رابين أن تعرض  للاغتيال في الرابع من تشرين الثاني / نوفمبر 1995على يد  يغئال عمير، الطالب اليميني المتطرف ، اليمني الأصل.

كانت تلك  صدمة شديدة لياسرعرفات الذي قال فورسماعه النبأ" لا أستطيع التصديق، أية كارثة هذه! "  لقد  شعر عرفات بانه خسر "شريك سلام الشجعان"..هاهو "الجنرال" الذي تغيروتحول إلى صنع السلام  يغيب عن الساحة الآن.

لم تسمح السلطات الإسرائيلية لعرفات بالمشاركة في تشييع رابين.لكنه حرص على تقديم تعازيه شخصيا إلى ليئا زوجة اسحق  رابين، بعد ستة أيام من الاغتيال، اصطحب كلا من محمود عباس "أبو مازن" وأحمد قريع"أبو علاء" ، في زيارة لأسرة رابين في حي" نيفيه أفيفيم "شمالي تل أبيب.

كانت تلك هي المرة الأولى التي يدخل فيها ياسر عرفات إلى" الأراضي الإسرائيلية".كان بادي التأثر، وقبّل الأبناء والأحفاد، ودعا ليئا رابين بـ " أختي"، وقال إنه فقد صديقا. وفي مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية، قالت ليئا :" كان زوجي، وأنا كذلك، نحترم ونقدر ياسر عرفات كثيرا. يتصف زوجي وعرفات كلاهما بالصفات القيادية ذاتها. ليس من شيمتهما الغش. اكتشفت أن ياسرعرفات رجل يتحلى بالعديد من صفات الجدية والمسؤولية. إنني أكنّ له التقدير. تأثرت كثيرا بما أبداه من ودّ إنساني حار تجاهي. إن حزن عرفات بعد وفاة اسحق كان عميقا وصادقا. وكذلك كانت تعازيه، الأكثر عمقا وصدقا على كل حال من بعض الشخصيات المعارضة الإسرائيلية" .

انسحابات وانتخابات

خلف اسحق رابين في رئاسة الحكومة مساعده وشريكه في أوسلو، شمعون بيريس، الذي يعرفه عرفات جيدا، والذي أمُل أن يواصل معه تطبيق الاتفاقيات. في لقائهما الأول، يوم 7 كانون الأول/ديسمبر 1995، اتخذا قرارا بمواصلة تنفيذ الاتفاقيات الموقعة دون إبطاء.

لم يبدُ وقتها أن مقتل رابين قد يعرقل عملية السلام. وهكذا تم بعد أسبوعين نقل مدينةجنين في شمال الضفة الغربية، إلى السيطرة الفلسطينية وتم الانسحاب الإسرائيلي منها وفق ما هو متفق عليه. و خرج عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال إلى الشوارع لاستقبال عرفات  والترحيب به. زُينت المدينة بالأعلام الفلسطينية وبصور القائد، الذي ألقى خطابا مؤثرا أشار فيه إلى تلك الأيام التي قضاها في المنطقة التي تسلل إليها صيف عام 1967 من أجل تنظيم المقاومة المسلحة.

بعد جنين، توجه أبو عمار إلى نابلس بعد خروج قوات الاحتلال منها،واعتلى مبنى المحافظة وألقى خطابا روى فيه الذكريات عن تجربته في العمل السري وتنظيم خلايا "فتح" هناك. في ذلك الخطاب أعلن عن ترشحه لرئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية، التي ستجري الانتخابات لها بعد شهر من ذلك اليوم.

كانت بيت لحم هي المدينة الثالثة التي انتقلت إلى السيطرة الفلسطينية قبل حلول عيد الميلاد. أثارت زيارة عرفات إلى المدينة حماسا هائلا بين السكان، وحضر  قداس منتصف الليل. كانت تلك المرة الأولى التي ينقل فيها التلفزيون الفلسطيني هذا الحفل التقليدي ويبثه إلى كافة أنحاء العالم من كنيسة سانت ــ كاترين ، المتاخمة لكنيسة المهد . ومن فوق سطح دير الأرمن الذي أقيمت عليه المنصة الرسمية، أعلن ياسر عرفات: بيت لحم هي مدينة فلسطينية تحررت إلى الأبد. هذه المدينة التي باركها الله بولادة يسوع الفلسطيني. نحن اليوم نصلي هنا، وفي العام القادم سوف نصلي في كنيسة القيامة في القدس وكذلك في المسجد الأقصى.. إنه يوم تاريخي لفلسطين .

في كانون الأول/ديسمبر 1995، انسحب الجيش الإسرائيلي من رام الله، واستقبلت جماهيرها عرفات استقبال المنتصرين، ونظمت له مراسم الشرف من أفراد الشرطة والقوة البحرية. بعدها بأيام زار قلقيلية وطولكرم، ليختتم بهما حلقة زياراته للمدن التي انتقلت إلى السيطرة الفلسطينية. في الوقت نفسه، أطلقت إسرائيل  سراح بضعة آلاف من المعتقلين الفلسطينيين.

و في ربيع 1996، انسحب الجيش الإسرائيلي من القرى والبلدات ومخيمات اللاجئين في الضفة الغربية. وفي تلك الأثناء، اتخذت خطوات جديدة لتعزيز أسس سلطة الحكم الذاتي: في 20 كانون الثاني/يناير1996، تم تنظيم انتخابات لمجلس ولرئاسة الحكم الذاتي،  كانت  اختبارا حقيقيا للديمقراطية الفلسطينية، و أعطت للسلطة الجديدة شرعية انتخابية كانت تنقصها.

انتُخب ياسر عرفات رئيسا للسلطة الفلسطينية وحصل  على 1ر88% من أصوات المشاركين في الانتخابات،أما  سميحة خليل منافسته فحصلت على 3ر8 %من الأصوات.

جرت الانتخابات الرئاسية في نفس يوم انتخاب الأعضاءالـ 88 للمجلس التشريعي، التي تنافس فيها  700 مرشح.  فاز اعضاء "فتح" وأنصارهم المستقلون بـ 68 مقعدا. وأصبح عرفات يتمتع بالأغلبية المريحة في البرلمان الجديدوحققت الانتخابات التشريعية نجاحا مهماً للسلطة الفلسطينية  .

حرص الرئيس الفلسطيني على أن تكون الانتخابات نموذجية وأن تجري بلا حوادث. كان عرفات يدرك أن أي شك في صحة النتائج سوف يستخدمه خصومه أفضل استغلال. جاء 660 مراقباً من كل  انحاء العالم (من الغرب، والعالم الثالث، بل ومن بلدان عربية مثل مصر والجزائر) لتأمين الرقابة على هذه الانتخابات، وكان يترأسهم الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر.

بعد ثلاثة أسابيع، أدى ياسر عرفات في المجلس التشريعي بغزة اليمين الدستورية على نسخة من القرآن الكريم ، كأول رئيس للسلطة الفلسطينية.وانهالت عليه التهاني من كافة أنحاء العالم. رأى بنيامين نتنياهو، زعيم حزب  الليكود المعارض في إسرائيل، في هذه الانتخابات"خطوة نحو إقامة دولة فلسطينية تشكل خطرا على إسرائيل"، بينما هنأ بيريس الرئيس الفلسطيني، وذكّره بالتعهدات التي قطعها بخصوص الميثاق الوطني الفلسطيني،  وكان  اتُفق  معه على أن تُلغى منه البنود التي" تنكر حق إسرائيل في الوجود". ومرة أخرى كان على ياسر عرفات أن يقنع أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني بالمصادقة على قرار لتعديل الميثاق.

انعقدت الجلسة الأولى للمجلس التشريعي يوم 7 آذار/مارس 1996 في غزة. دعا عرفات في خطابه الأعضاء إلى التصويت لصالح  إلغاء بنود الميثاق التي تتعارض مع اتفاقيات السلام مع إسرائيل  "إن لم تصوتوا من أجل تعديل هذا الميثاق، فسوف تضيع على الشعب الفلسطيني كله فرصة تاريخية بسببكم. نحن بصدد إقامة دولة، وتحقيق أحلام الأجيال السابقة. لا نريد العودة مرة أخرى إلى نقطة البداية". كان عرفات في لقاءاته مع أعضاء المجلس يؤكد أن هذه البنود تشكل عبئا كبيرا عليهم، حيث يستغلها المتطرفون الإسرائيليون ليبرهنوا على أن الفلسطينيين لا يريدون السلام حقا.  

 ولى بيريس في الواقع هذه البادرة أهمية كبرى، لان إلغاء البنود سيؤكد  للإسرائيليين انه كان ورابين على صواب في توقيع اتفاقية أوسلو.

في 24 نيسان/أبريل 1996 ، صوت المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة في دورته الواحدة والعشرين الطارئة، وبالأغلبية الساحقة ــ 504 مؤيدين، 54 معارضا، 14 ممتنعا ــ لصالح إلغاء البنود موضوع الدورة.  

وينص القرار على ما يلي:  يتم تصحيح الميثاق الوطني الفلسطيني على نحو تلغى معه كافة الفقرات التي تتعارض مع الرسائل المتبادلة (الاعتراف المتبادل) بين (م.ت.ف) ودولة إسرائيل يومي 9 و10 أيلول 1993. يكلف المجلس الوطني الفلسطيني اللجنة القانونية بإعادة صياغة الميثاق الوطني على أن يقدم الصيغة الجديدة في الدورة القادمة للمجلس .

تأكد بيريس أن ياسر عرفات يفي بوعوده. واعتبر أنه" تعديل ذو مغزى تاريخي، وهو أكبر تحول أيديولوجي في هذا العصر". وفتح الأميركيون بدورهم أبواب البيت الأبيض أمام ياسرعرفات. كانت تلك هي المناسبة الأولى لإجراء مباحثات فلسطينية خاصة مع الرئيس الأميركي كلينتون، طلب خلالها عرفات مساعدة عاجلة لأن الأوضاع كانت متدهورة وخطرةفي الضفة الغربية وقطاع غزة

إسرائيل تغير جلدها

بعد شهرين على اغتيال رابين اغتالت إسرائيل يحيى عياش المعروف بـ"المهندس" خبير المتفجرات لدى حماس، وردت حماس بسلسلة عمليات أوقعت ستين قتيلا  ومئات الجرحى بين الإسرائيليين ..تدهور الموقف كثيرا وتصاعد غضب الإسرائيليين ليترجم بعد ذلك في الانتخابات العامةيوم 29أيار/مايو 1996..خسر بيريس وفاز بنيامين نتنياهو زعيم الليكود والعدو اللدود لاتفاقيات أوسلو .

شعر عرفات بانه يخسر شركاء السلام في إسرائيل، وفعلا تغيرت لهجة السلطات الإسرائيلية مع صعود نتنياهو إلى سدة الحكم ..بدأت المضايقات والضغوط على عرفات ..أصبح عرفات مضطرا لطلب تصريح خاص لطائرته في كل مرة تقلع بها ..وها هو رئيس الوزراء الجديد يتجاهله تقريبا  لنحو ثلاثة أشهر، ثمة مؤشرات على أن إسرائيل "قلبت له ظهر المجن"...

بعد تدخل من عيزر وايزمن ،رئيس إسرائيل، وافق نتنياهوعلى الاجتماع بعرفات،ولكن الاجتماع الذي عقد يوم 4أيلول/سبتمبر1996في معبرايريز لم يتمخض عن أية نتيجة جوهرية.وكان نتنياهوقد سبق اجتماعه مع عرفات بإلغاء قرار تجميد الاستيطان المعمول به جزئيافي الأراضي الفلسطينيةخلال السنوات الثلاث الماضية

ولكن نتنياهو اضطربعدأيام  إلى طلب عقد اجتماع مع ياسرعرفات في القاهرة، بسبب  تفجر الأوضاع إثر إعلان اسرائيل افتتاح نفق يمر تحت ساحات المسجد الأقصى ليلة 23/24أيلول/سبتمبر. رأى عرفات والفلسطينيون في افتتاح النفق انتهاكا صارخا وكبيرا لقدسية المسجد الأقصى ضمن مخططات تهويده..اندلعت تظاهرات احتجاج  في القدس تقدمهاوزيرالشؤون الدينية في حكومةعرفات الشيخ حسن طهبوب الذي تعرض لاعتداء من قوات الاحتلال الإسرائيلي ،وامتدت التظاهرات إلى باقي انحاء الضفة الغربية وقطاع غزة.وتدخلت قوات الأمن الفلسطينية للرد على نيران قوات الاحتلال الإسرائيلي التي  أطلقت على المتظاهرين الفلسطينيين العزل.سقط نحو 80 شهيدا فلسطينيا ومئات الجرحى،وقتل 15 جنديا إسرائيلياوأصيب العشرات.

عقد عرفات اجتماعا ثنائيا مطولا مع نتنياهو يوم 2تشرين الأول/اكتوبر 1996أثناء  قمة جمعتهما مع كلينتون ومبارك والملك حسين في شرم الشيخ حيث عقدت القمة لتدارك التدهور على الارض.   وبعد مفاوضات شاقة بين عرفات  و رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهوجرى  توقيع "بروتوكول حول إعادة الانتشار في الخليل"  بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل في 15/1/1997 في  شرم الشيخ بمصر. ثم وقع  عرفات مع نتنياهو اتفاق "واي ريفر" في مؤتمر "واي بلانتيشن" بولاية ميريلاند الأميركية في 23/10/ 1998 لتطبيق أجزاء مما  نصت عليه اتفاقية أوسلو. ...وهي أول وثيقة يوقعها عرفات مع نتنياهو الذي لجأ إلى المماطلة لسبعة اشهرفي مباحثات التنفيذ. وكما حدث معه في المدن التي دخلها بعد الانسحابات الإسرائيلية لقي عرفات استقبالا شعبيا حافلا في الخليل.

واصل نتنياهو توجيه " ضرباته" لاتفاقيات أوسلو ..وفي آذار/مارس 1997قررتنفيذ مشروع استيطاني كبير في جبل أبوغنيم في القدس الشرقية المحتلة ،فرد عرفات بإعلان في المجلس التشريعي "الاستيطان هو الإرهاب " ..وتحرك عربيا ودوليا للضغط على إسرائيل .والتقى في هذا الإطار مع الرئيس السوري حافظ الاسد لأول مرة منذ توقيع اتفاقية أوسلو..قام بعدة زيارات واتصالات ..و بطلب من فلسطين عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة الدورة الاستثنائية العاشرة " الاتحاد من اجل السلام" والتي اتخذت عدة قرارات تندد بالبناء الاستيطاني في القدس وباقي انحاء الأراضي الفلسطينية المحتلة  وتؤكد بطلان كافة الإجراءات التي تتخذها سلطات الاحتلال في الاراضي الفلسطينية المحتلة وتدعو إلى الوقف الفوري لأعمال البناء الاستيطانية في جبل أبو غنيم.

شكل انعقاد الدورة الاستثنائية بحد ذاته وبما نتج عنها من قرارات  نجاحا دبلوماسيا مهما جدا لفلسطين ما  زاد من انزعاج نتنياهو.

استغلت إسرائيل تواصل عمليات التفجير التي تنفذها "حماس "و"الجهاد الإسلامي" لتتهم ياسر عرفات بدعم الإرهاب ولتبدأ حملة مبرمجة لتشويه صورته.كان عرفات يدرك تماما أن نتنياهو لا يفي بتعهداته وأن هدفه الوحيدهو تدميراتفاقيات أوسلو التي اصبحت على وشك الانهيار.رد عرفات ملوحا بأنه يفكر في إعلان الدولة  الفلسطينية على كافة أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك بعد انقضاء فترة السنوات الخمس التي تنص عليها اتفاقيات أوسلو، أي في 4 أيار/مايو  1999. وهدد نتنياهوبأنه سيعتبرهذه الخطوة انتهاكا صارخا للاتفاقيات وانه سيرد بقسوة.

تدخلت أطراف عدة لإقناع عرفات بعدم إعلان الدولة من جانب واحد.وقبل عرفات بنصيحة كلينتون بتأجيل إعلان الدولة إلى كانون الثاني/ينايرفي العام 2000.

وبعد مفاوضات شاقة ومطولة مع نتنياهو "المعارض" أصلا لأوسلو وقع عرفات ونتنياهو اتفاق "واي ريفر" في مؤتمر "واي بلانتيشن" بولاية ميريلاند الأميركية  الذي عقد ما بين 15 و23 تشرين الأول/أكتوبر 1998 برعاية بيل كلينتون، كان الرئيس الأميركي  يأمل في إعادة عملية السلام إلى مجراها. كانت القرارات التي تم تبنيها  عبارة عن تطبيق لأجزاء مما  نصت عليه اتفاقية أوسلو.

في هذه القمة أظهر أرئيل شارون ـ"وزير البنى التحتية في إسرائيل "حينهاـ بوضوح عداءه لياسرعرفات ،تجاهله خلال المؤتمر وخلال العشاء الرسمي، بينما أظهر اهتماما برفيقي عرفات محمود عباس وأحمد قريع.

بعد 3 أسابيع على  قمة "واي بلانتيشن"، داست الحكومة الإسرائيلية على الاتفاقيات وصادقت على قرارات بإقامة مستوطنات وفق برنامج يمتد على عدة سنوات، وقررت ان إعادة الانتشارالثالث والأخيرلقواتها ، الذي طالما انتظره الرئيس عرفات، لن يتم إلا على 1% من مساحة الضفة الغربية.  

في 14 كانون الأول/ديسمبر 1998 بغزة انعقد المجلس الوطني الفلسطيني ، ودعي إليه الرئيس كلينتون. واتخذ الحدث بعدا دوليا وتحول إلى مناسبة تخدم القضية الفلسطينية.ازدانت شوارع غزة وغطتها الأعلام الفلسطينية والأميركية، واستُقبل كلينتون في المطار من قبل الرئيس عرفات شخصيا، وبكل المراسم الرسمية التي تليق بالحدث.

ألقى كلينتون خطابه أمام المجلس ، وهو الخطاب الأول لرئيس أميركي على الأرض الفلسطينية وقال فيه: "إنني فخور لأنني أول رئيس أميركي يكون هنا بينكم، يقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، بينما تعملون على صنع مستقبلكم".

كان كلينتون متفائلا،وعبرعن تعاطفه مع "هذا الشعب الذي يعاني العذاب"، وذكّر" بالأطفال الذين يقبع آباؤهم في السجون أو سقطوا خلال النزاع".

لم تعجب هذه الكلمات نتنياهو  فافشل القمة التي عقدت في اليوم التالي في الجانب الإسرائيلي من معبر إيريز بين  كلينتون وعرفات ونتنياهو. انزعج نتنياهوكثيرا من  إشارة كلينتون إلى عذابات الأطفال، كل الأطفال، بينما بالنسبة له هنالك"أطفال القتلة،وأطفال الضحايا" ولم يتحمل كذلك أن يسمح الحليف الأميركي لنفسه بأن يضع" الكفاح"  الذي يخوضه الشعبان على المستوى الأخلاقي ذاته، بينما" لم يصدق عرفات أذنيه" حين سمع الرئيس الأميركي يتحدث عن الفلسطينيين بمثل ما يتحدث عن الإسرائيليين... في آخر ذلك النهار، تم تعديل الميثاق بعد تصويت برفع الأيدي: لم يعتر

لا تتوفر نتائج حالياً